by Tasneem Nagi

2

كان واقفاً هناك، في زاوية الغرفة قبالة النافذة، وقميصه ذو الخطوط السوداء الطولية ينقصه زر

أشهق مصارعة ضجيج أعماقي بحثاً عن منفذ لنفس هواء، أتأمله وهو يسند جسده النحيف الى الحائط بنصف انهزام بينما تحوم سحب دخان سجائره حول رأسه كنسور تحلق فوق جثة

وسط الفوضى التي قادتني إلى هنا لم أتوقف لأفكر بما سيحدث الآن، ها أنا على الباب وبضع خطوات تفصلنا إلّا أنها تبدو كعوالم، أتهادى.. خطوة تتوق إليه والأخرى تلعن كل التاريخ الذي قادني إلى هنا.. أيدري أن كل درب سلكناه كان معبداً عن قصد ليقود إلى الهلاك؟ هل يعرف أن الدم الذي يجري في عروقي الآن ويلفظه قلبي لفظاً هو ذاته على الطرف الآخر من الرصاصة التي اغتالت وطناً، وأغتالتنا معا في الطريق..؟

 سعيدو الحظ هم من غادرونا، قضوا تضحية لإيمانهم، قضينا ونحن نبكيهم وقضينا ونحن نقتلهم وقضيت أنا على الطرفين

يلمع برق وسط السماء الملبدة بالغيوم، وهو يلتفت إليّ ينعكس مع الذهول في عينيه السوداوتين كخصلات غجرية – دمع، أكاد أسمع دق الطبول من عمق أنفاسه، أكاد أحس بوقع حوافرهم على رمال حلمه الكبير، أيدري أنهم أنا؟ أنني منهم؟ عبثاً أحاول أن أمسد سطح الرمال بيدي العاريتين فيلفحني حرها ولا أفلح..  أتلمس ثقب الزر المفقود عل اصبعي يطابق الفراغ، لعلي أكون القطعة المفقودة من أحجيته هذه المرة فقط.. تزحف الثواني وهي حبلى بآلاف الكلمات التي تهاجم شفتي لتموت عندهما، كم هو قاس الموت! تتراجع الأحرف مختبئة أمام جبروته، وتأبى أبجديتي إلّا أن تتساءل  بذنب قاتل لا تزال الدماء تغطيه

–   اِنتَ… كويس؟

تتراقص الدمعة بين جفنه السفلي وطرف رمشه، قبل أن يهمس

–   انتي هنا!

وعندها

أمطرت

3

زخات المطر تتراقص بلا انقطاع على موسيقى تهاويها، تسابقها للارتطام المدو على سطح النافذة الوحيدة  لتخلق ببطء شديد بركة من سحر، نغطس أطراف ادراكنا فيها.. متحدين المدينة التي تغتسل في الخارج، وقد أسبلت عيونها المليئة بالأحكام للحظات مسروقة، لحظات كأبد

أحبني الآن

قليلاً بعد

لا تزال شروخ المدينة تدمي طمياً على الطرقات، ومن ثقوب جسدي… أعدني الى التراب الأسمر.. لأنمحي.. متعبة هذه الروح التي تحملني، دعها تتسرب رويداً… خيوط فكر هزيلة.. لتختبئ في زوايا الادراك بعد أن احتللته… أنت.. وأنا.. وقطرات المطر

أحبني الآن

قليلاً بعد

لم أعد أخاف الظلمة بعد أن رأيتها في وضح النهار، وسالت بصقتها من مقلتيّ دمعاً رغما عن أنفي.. كم تعرّينا الدموع! لمَ أختمر وكل العيون عمياء في هذا الليل الطويل؟ لم يعد يدركنا من الشمس سوى لهيبها..

أوقدني إذاً

قليلاً بعد

لعلنا نجد الضوء في أعماق بعضنا.. لعلنا نحترق الليلة.. شعلة من أسى.. لم يكن ليتبقى منا على أية حال وسط ظلمة هذه المدينة.. سوى الرماد

راقصني إذاً

ها هو المطر قد أتى ليشهد

عرس الحداد


Comments

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *